26 - 06 - 2024

اقرأني لتراني| فوتيه أمى المزركش وموج صابر الرباعى!

اقرأني لتراني| فوتيه أمى المزركش وموج صابر الرباعى!

فى قلبى موسيقى لم أسمعها بعد، أعرفها تماماً دون أن أسمعها. أنساها أحياناً لكننى أتعرف عليها من جديد كلما سمعت موسيقى جميلة من كل مكان فى العالم فأطمئن. لابد أنها جينات صوفية من أبى، وجينات موسيقية من أمى..لم يختلفا أبداً فى تذوق الموسيقى الجيدة ولا رآها مخالفة لأحاسيسهما الدينية العميقة، ألم يَزمٌر نبى الله داوود ويٌرنم فسبحت الجبال والطير والوحوش والسِباع لله  الخالق الواحد ؟

وهى تحتل كرسيها الخاص أمام التليفزيون، كانت أمى تفرز المطربين والمطربات وترسم مستقبلهم الواعد وتنقد أداءهم فى الحفل الفلانى واللقاء العلانى. رضعنا حب الموسيقى أنا واخوتى منها، ومارسنا الموسيقى عزفاً أو غناءً مثلها ونحن نشعر بإمتدادها فينا. كانت أمنية أمى الوحيدة أن تحضر حفلاً لأم كلثوم وكانت أمنيتى الوحيدة ان أحضر حفلاً لفيروز، ولم تنل أى منا أمنيتها،  وحين حضرت أخيراً حفلاً حياً لصابر الرباعى على هامش مهرجان الموسيقى العربية كنت أراها بعين قلبى تعتدل فى جلستها على الفوتيه الملون، تعدل النظارة أو تطقطق بأصابعها حتى نتوقف عن الكلام لتسمع، كانت تَطرِب لكل صوت جميل مضبوط المسافات والمقاسات والمقامات، لم تقل أمى هذا أبداً، لكننا فهمنا من كل ما تمثله فى الحياة أن كل جميل ماهو إلا انعكاس لجمال الخالق الأعظم، مثل مرآة محدودة تعكس جمالاً يفوق حد التصور، كلما انبهرتَ بما تراه فى المرآة، كلما مجدتَ عظمة الخالق. 

وكانت أمى من عشاق صابر الرباعى!

أسمع صابر الرباعى منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، لكننى لم أحضر له حفلاً من قبل، وبعد أن فعلت، أقر أنه غول على المسرح، تكتم أنفاسك من الرهبة أمام حلاوة صوته. هل تعرفون كيف يبدو صوته للناظرين؟ دعونى أفكر! إممم! صوته مثل حفنة من الماس تمسكها بين يديك تحت الشمس تبرق وتتوهج، أو صفحة الماء الصافية وقت العصرتخطف عينيك، أو مثل فستان سهرة متلأليء يوجع قلبك قبل عينيك من جماله، هل يمكن أن تنتقل الصورة السمعية إلى بصرية؟ يلمع صوت صابر الرباعى بلا مبالغة، يضيء وينشر نوراً حوله وفى آذان من يسمعه. أو هو حين يغنى مثل فارس على صهوة حصان عربى أصيل، يجرى به فى برارى واسعة، تخضر أحياناً أو تصفر، تحيطها المياة أو الجبال، وهو قادر أن يمر بصوته الجبار من خلالها جميعاً بيسر عجيب. 

لا عجب أن أمى كانت تطرب له وتقدر إمكانات صوته المميزة! 

يجذب صابر بحلاوة صوته الطبيعية، دون مونتاج ولا مكساج ولا مساج ولا ديكوباج وكل ما ينتهى بآاااج من أشياء فخمة، دون أى شيء سوى جمال الخالق فى موهبته، يجذب الجمهور المشتت الاهتمامات ما بين السمع والموبايلات إلى المسرح وحده. مغناطيس كبير ومهول، وحضوررائق طاغِ يخلو من أى تكلف، سيطرة تامة على الأدوات والمكان والجمهور والموسيقين، يعتلى صابر موجة بحر كبيرة ، يركبها ويروضها تحت اللوح بمهارة وكأن اللوح سجادة سحرية، يعلو ويهبط بها وكأنه وٌلِد عليها وحين تنتهى جملته الموسيقية تكون الموجة قد وصلت للشاطيء بسلام ولامست قدميك ، أنت المشاهد المستمع المبهورالعاجز عن التصديق بينما راكب الأمواج على صهوة موجة جديدة!
(بإلهام من حفل صابر الرباعى فى دار الأوبرا، الأحد 11-11-2018)
 -----------------

بقلم: د. منى النموري

مقالات اخرى للكاتب

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة





اعلان